البنك المركزي ينتصر للاقتصاد المصري
شهد قرار البنك المركزي المصري بتطبيق الاعتمادات المستندية ووقف استخدام التحصيلات المستندية في العمليات الاستيرادية جدلاً في بعض القطاعات بالاقتصاد المصري حيث تعالت أصوات المعارضين على هذا القرار، نبرة الاعتراض هذه ذكرتنا بنفس النبرة عندما اتخذ البنك المركزي قرار تحرير سعر صرف الجنية المصري وتركه لآليات السوق المتمثلة في العرض والطلب ضمن إجراءات برنامج الإصلاح الاقتصادي والتي كانت تقول إنه قرار غير سليم وأن توقيت القرار ليس في الوقت المناسب، وأن سعر الدولار سيصل لـ 30 جنيهاً، وغيرها من الأقاويل، ولكن بعد فترة ليست بالكبيرة ثبت للجميع صحة القرار وكان له عدة منافع للاقتصاد المصري أبرزها القضاء على السوق الموازي (السوق السوداء)، وتحسن أداء العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي، بشهادة المؤسسات الدولية، والتي أكدت أن الجنية المصري حقق ثاني أفضل أداء في الأسواق الناشئة أمام الدولار الأمريكي.
ونحن الآن أمام واحد من القرارات التي ستعزز من موقف الاقتصاد المصري في العديد من الجوانب التي يجب أن نوضحها بشئ من التفصيل.
التنسيق بين السياسات المالية والسياسات النقدية
يجب أن نوضح أن مصر يوجد بها مجلس تنسيقي بين السياسات المالية والسياسات النقدية يعمل بموجب القرار الجمهوري رقم 584 لسنة 2021 في ضوء قانون البنك المركزي المصري والجهاز المصرفي رقم 194 لسنة 2020، والذي يعمل على وضع الآليات اللازمة للتنسيق بين السياسات المالية والسياسات النقدية، فعندما قامت الحكومة المصرية بتطبيق منظومة التسجيل المسبق للشحنات ACI في ضوء توجه الدولة للتحول الرقمي نحو الجمهورية الجديدة لتبسيط الإجراءات وميكنتها بمصلحة الجمارك وتسهيل حركة التجارة والتي ستحقق الحماية للمواطن المصري من البضائع الرديئة مجهولة الهوية حيث يعتمد على توفير البيانات اللازمة عن الشحنات كالفاتورة التجارية وبوليصة الشحن وغيرها من المستندات قبل ورود الشحنات بيومين لتتمكن أجهزة الدولة من رصد أي خطر عليها من خلال نظام إدارة المخاطر لضمان أمن مواطنيها من السلع المستوردة رديئة الجودة، وقد حازت المنظومة على شهادة ثقة من البنك الدولي والذي يظهر نجاح تطبيقها على النحو الذي يساهم في تسهيل حركة التجارة الداخلية والخارجية وخفض تكلفة الاستيراد والتصدير وتقليل زمن الإفراج الجمركي.
وتساهم أداة الاعتمادات المستندية في تحقيق أهداف منظومة التسجيل المسبق للشحنات وذلك لأنها تحتاج إلى مجموعة من المستندات الهامة كبوليصة الشحن وشهادة المنشأ وشهادة المواصفات والفواتير النهائية والمبدئية، فضلاً عن مجموعة من الشروط التي تتم وفقاً للأعراف الدولية UCP600&500 والتي لا تتطلب توافرها بالشكل الكبير في التحصيلات المستندية. فضلاً عن أن البنوك يكون لها دور أكبر في ضبط عمليات الاستيراد من الناحية المستندية في عمليات الاعتماد المستندي عن التحصيل المستندي والتي ستحقق عملية الرقابة والحوكمة على العمليات الاستيرادية.
وبالتالي فإن أقاويل أن القرار لم تتم دراسته أو أنه قرار عشوائي، ليس لها أي أساس من الصحة في ضوء التنسيق الموضح بين السياسات المالية والسياسات النقدية لدعم التطبيق السليم للحفاظ على استمرارية تحقيق معدلات النمو الطموحة للاقتصاد المصري والذي سيعود على المواطن المصري بالنفع.
توطيد الصناعة المصرية
اعتمد الاقتصاد المصري خلال الأعوام الماضية على الاستيراد لأغلب المنتجات والسلع بدلاً من التوجه نحو التصنيع والاعتماد على المنتجات محلية الصنع تحت شعار (صنع في مصر)، فهل سنظل نستورد العديد من السلع والمنتجات ذات التكنولوجيا البسيطة ولا نستطيع كدولة طموحة القيام بتصنيع أبسط السلع؟.. وبنظرة لقرار البنك المركزي المصري، فهو استثنى من قراراه استيراد مجموعة من السلع تتركز في السلع الغذائية والمنتجات الدوائية في ظل الظروف الحالية، فضلاً عن خفض العمولات المحصلة من البنوك على الاعتمادات المستندية لتكون كعمولات مستندات التحصيل، وبالتالي فإن حجة المعارضين لهذا القرار ليس لها أساس، فيما يخص ارتفاع عمولات الاعتمادات المستندية، إضافة إلى توجيه المركزي المصري البنوك العاملة بالقطاع المصرفي المصري بالاستجابة السريعة لطلبات المستوردين وتيسير إجراءات فتح الاعتمادات المستندية والحدود الائتمانية اللازمة لها في حالة طلب العملاء الحصول على تسهيلات ائتمانية لفتح اعتمادات مستندية، وبالتالي فعلى المعارضين توفيق أوضاعهم في ضوء تقديم المركزي المصري التيسيرات اللازمة للعمل.
وسيعزز هذا القرار من توجه المستوردين إلى استثمار أموالهم في عمليات التصنيع البديلة للمنتجات المستوردة على الأقل المنتجات والسلع التي لا تحتاج لتكنولوجيا كبيرة والاستفادة من مبادرات البنك المركزي المصري لدعم القطاعات الاقتصادية وأبرزها القطاع الصناعي والزراعي والإنتاج الداجني والسمكي، والتي ستدعم توفير المنتجات والسلع المصرية البديلة للمنتجات المستوردة.
خفض فاتورة الاستيراد وتحسين جودة المنتجات المستوردة
تسعى الدولة المصرية لخفض العبء على الموازنة العامة من خلال خفض فاتورة الاستيراد للمنتجات التي زادت بشكل كبير خلال الفترة الماضية حيث تجاوزت واردات مصر 61 مليار دولار أمريكي في 2021، وقد ارتفعت واردات مصر بنسبة 15.3% في أكتوبر الماضي لتصل إلى 6.4 مليار دولار أمريكي مقارنة مع 5.5 مليار دولار في أكتوبر 2020، وهو ما يعكس ارتفاع فاتورة الاستيراد على الرغم من توجه الدولة لخفض حجم الواردات المصرية، وبالتالي فنحن أمام فاتورة تمثل عبئاً كبيراً نحتاج لتقليصه لتوجيه المدخرات والاستثمارات إلى الداخل بدلاً من الخارج، بالإضافة إلى استيراد السلع الهامة والاستراتيجية وتقليل استيراد السلع والمنتجات الثانوية وذات الجودة الرديئة، حيث يسعى بعض المستوردين لاستيراد منتجات ذات جودة قليلة لتعظيم ربحيتهم مقابل تقديم منتجات ذات جودة ملائمة للمواطن المصري.
وبالتالي فإن أغلب المنتفعين من زيادة حجم الواردات تعالت أصواتهم للوقوف أمام قرار المركزي المصري، وذلك لأن ذلك القرار سيقلل من ربحيتهم في ظل زيادة نظم الرقابة والحوكمة، التي تسعى لها الدولة المصرية، على المنتجات المستوردة التي تليق بالمواطن المصري.
100 مليار دولار صادرات مصرية
يُعد حلم الـ 100 مليار دولار صادرات مصرية واحداً من أهم الخطوات التي تسعى إليها الدولة المصرية لتحقيق توازن بين حجم الصادرات والواردات بميزان المدفوعات، والذي لن يتحقق إلا من خلال توطيد الصناعة والزراعة المصرية وتحسين جودة منتجاتها لتلائم احتياجات الدول المستوردة، حيث يسعى المستورد في المقام الأول إلى المفاضلة بين الجودة والسعر، فإذا انخفضت جودة المنتج لا يكون هناك طلب عليه إلا من خلال الدول التي لا تمثل جودة السلع والمنتجات المستوردة أهمية لديها، وهذه الدول قليلة جداً، وبالتالي فإن توطيد الصناعة المصرية وتحسين جودتها سيساهم في توفير متطلبات السوق الداخلي والسوق الخارجي، والذي سيكون له دور كبير في زيادة حجم الصادرات المصرية لتصل إلى 100 مليار دولار، ونحن الآن عند محطة تجاوز صادرات مصر 30 مليار دولار في 2021، أي حوالي ثلث المستهدف ،ونحتاج إلى العمل بشكل أكبر لتحقيق الاستراتيجية الطموحة والتي لن تتحقق الا بخفض فاتورة الاستيراد وزيادة معدلات التصنيع والمنتجات الزراعية.
ومن هنا فإن معدلات زيادة التصنيع والمنتجات الزراعية ستمثل تهديداً للمنتفعين من زيادة فاتورة الاستيراد لأنها ستقلل من منافعهم أمام منفعة الاقتصاد المصري وتحقيق الاستراتيجيات المنشودة خلال الأعوام المقبلة.
البطالة
مع زيادة معدلات التصنيع والمنتجات الزراعية، والتي تعد ذات أولوية كبيرة للاقتصاد المصري مقابل العمليات الاستيرادية، يزداد حجم العمالة المصرية والتي بدورها ستساهم في خفض معدلات البطالة والتي تجاوزت 7% خلال الفترة الماضية، فبطبيعة الحال النشاط الصناعي يحتاج لعمالة كثيقة ويقلص معدلات البطالة، أما عمليات الاستيراد فلا تحتاج لعمالة كبيرة لكونة نشاطاً خدمياً بطبيعته، أما عمليات التصنيع بها العديد من الأنشطة الرئيسية وداخلها العديد من الأنشطة الفرعية تبدأ من نشاط المواد الخام مروراً بنشاط التصنيع في خطوط الإنتاج والتي تحتاج للعديد من الأيدى العاملة داخلها وصولاً إلى نشاط التخزين ونشاط التسويق ونشاط البيع.
ويتضح لنا أن مثل هذا القرار والذي سيكون له دور في دعم القطاعين الصناعي والزراعي سيساهم بشكل كبير في امتصاص العديد من العمالة وخفض معدلات البطالة.
الأسعار والتضخم
مع صدور قرار المركزي المصري ارتفعت العديد من الأصوات بزيادة أسعار السلع وزيادة وتيرة معدلات التضخم، فمع زيادة العمولات نتيجة فتح الاعتمادات المستندية سيتم تحميلها على أسعار المنتجات والسلع المستوردة والتي ستكون هناك زيادة في التضخم مع الزيادة المرتقبة من الموجة التضخمية العالمية فضلاً عن الفوائد المدفوعة من المستوردين للبنوك على الاعتمادات المستندية المسددة من خلال التسهيلات الائتمانية، إلا أن المركزي المصري أصدر تعليماته بخفض العمولات المحصلة على الاعتمادات المستندية لتصبح مساوية لعمولات التحصيلات المستندية، فضلاً عن أن العملاء الحاصلين على تسهيلات ائتمانية لتمويل العمليات الاستيرادية فهناك مبادرات من المركزي المصري لدعم القطاعات الاقتصادية المختلفة ذات عوائد منخفضة 8% والتي يمكنهم الاستفادة منها، وندعوهم لدراسة شروطها للاستفادة منها.
وبالتالي فإن أي زيادة في الأسعار ستكون غير مبررة، فضلاً عن أن التوجه نحو التصنيع بديلاً للاستيراد سيكون له دور كبير في ضبط الأسعار واحتواء الضغوط التضخمية.
الاحتياطي النقدي الدولي
تحتاج العمليات الاستيرادية إلى توفير العملات الأجنبية والتي تتم بشكل كبير بالدولار الأمريكي حيث اقترب الاحتياطي من 41 مليار دولار أمريكي وبالتالي فان خفض فاتورة الاستيراد والاعتماد على الإنتاج والتصنيع سيكون له دور كبير في دعم موقف الاحتياطي النقدي والذي انخفض بعد أزمة كورونا ليصل إلى 36 مليار دولار امريكي بعد أن كان 45 مليار دولار أمريكي قبل جائحة كورونا كما أن دخول مورد جديد لموارد العملة المصرية بجانب السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين من الخارج والمتمثل في الصادرات المصرية الناتج عن عمليات الإنتاج والتصنيع والزراعة سيساهم في تنويع موارد العملة الأجنبية وتعزيز موقف الاحتياطي الدولي.
أداء العملة المصرية
زيادة ودعم عمليات الإنتاج والتصنيع وحسن استغلال الموارد المصرية سيعزز من قيمة وأداء الجنية المصري أمام العملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار الأمريكي والتي ستحتاج إلى السرعة في عمليات الإنتاج والتصنيع والزراعة والخفض للعمليات الاستيرادية وتركيزها على السلع الاستراتيجية ووقف نزيف استيراد السلع الثانوية. والتي عززتها آليات تطبيق قرار المركزي المصري باستثناء استيراد مجموعة السلع الزراعية والدوائية بالتحصيلات المستندية.
المواطن المصري
من حق المواطن المصري الحصول على السلع ذات الجودة العالية والتي أكد عليها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في تصريحاته عن استيراد منتجات ذات مواصفات أوروبية وأيضاً تصنيع المنتجات بنفس الجودة الأوروبية بدلاً من حالة المنتجات المستوردة الرديئة التي انتشرت خلال الآونة الأخيرة والتي تمثل عبئاً على صحة المواطن المصري.
الخلاصة
باختصار شديد يمكن الآن القول إن القرار المُتخذ من قبل البنك المركزي المصري متوافق مع التوجهات الحكومية التي تهدف لتوفير منتجات جيدة للمواطن، ودعم الصناعة الوطنية، ولا يوجد أي تعارض في تطبيقه، ولا توجد عشوائية في اتخاذه، بل سيساهم في دفع عجلة نمو الاقتصادي المصري.